الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والجواب والله أعلم: أن نقول من لفظ مفرد ويصلح للاثنين والجميع.على هذا وضعه فإذا ورد في تكيب كلامهم فأول ما يحمل على السابق من حكمه اللفظى من الافراد فلهذا ترد صلته إن كان موصولا أو صفته إن كان موصوفا أو خبره إن كان شرطا أو استفهاما كصلة الذي الواقع على المفرد فتقول في الصلة والصفة: من الناس من يفعل كذا وتقول في الاستفهام: من يفعل ذلك؟ فيرفع الفعل ضميرا مفردا وسواء كان المراد في المعنى واحدا أو أكثر قم قد يكون فيما اتصل بالكلام بعد ضمير أو غيره يراعى فيه معنى من حيث يراد أكثر من واحد فيأتون بع على معنى من لا على لفظها كقولك: من الناس من يفعل كذا ويخطئون في ذلك ومنهم من يفعل كذا مستمرين على فعلهم يبين ضمير الجمع في قولك: وهم يخطئون والحال في قوله: مستمرين على فعلهم أن المراد أكثر من واحد وعلى هذا كلام العرب في الكثير المطرد وعيه جاء القرآن قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} ثم قال: {وما هم بمؤمنين} فعاد الضمير مجموعا في قوله: {وما هم} بعد عودته مفردا وهذا كثير وقال تعالى: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ندخله جنات تجرى من تحتها الأنهار} فعاد الضمير من ندخلع مفردا على لفظ {من} ثم قال: {خالدين} وهو حال من الضمير قتبين بهذا الجمع أن المراد جميع، وقد يجرى الكلام على أوله في الإفراد كقوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا...} الآيات، فورد فيها ضمائر ثمانية كلها عائدة على لفظ من ولم يرجع منها شيء على معنى من مع أن المعنى على الكثرة ثم أعلم بعد أن المراد بما يبينه ما يأتى بعد الضمير المفرد المحمول على لفظ من إنما هو أعنى المبين كثرة أو وحدة أما إبهام التعيين فمقصود لا يرتفع فإن إبهام الصلة أو الخبر في هذا أبلغ في تكميل فائدة الكلام وإحرازها ألا ترى أن قول الملك لخاصته: إن منكم من يفعل كذا أهيج لنفوس السامعين وأبلغ في التحريض على الشيء أو الزجر عنه بحسب المرتكب فإن كان مما يحبه الملك تشوقت نفوس المخاطبين إليه وإن كان على الضد من ذلك اشتد خوف جنيعهم وحذرهم وهذا يستدعى طولا قد يخرجنا عن مقصودنا والوارد من هذا في الكتاب العزيز كثير.ونرجع إلى مقصودنا فنقول: إن آية الأنعام وردت على الأكثر المطرد وقد ورد فيما انتظم بالآية بيان كون المستمعين جماعة وذلك قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا} فبين أن المراد جماعة وارتفع الاحتمال ولما لم يرد فيها انتظم مع آية سورة يونس ضمير ولا غير ذلك مما يبين المستمعين جماعة وكان بيان ذلك مرادا مقصودا أتى الضمير أولا ضمير جمع حملا على معنى من ولم يحمل على لفظها فيفرد لئلا يوهم أن المستمع واحد وذلك غير مقصود فقيل: {ومنهم من يستمعون إليك} إذ ليس في الكلام بعد ما يبين ذلك.فإن قيل فإن من قد تقرر حكمها أنها يراد بها الكثير وإن كانت مفردة اللفظ وصالحة له وإذا كانت في الأكثر من كلامهم مراد بها الكثير فذلك يرفع إيهام إرادة واحد؟ فالجواب أن إرادة الواحد بها- وإن كان الأقل- مبق حكم الايهام قال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا...} الآيات إلى قوله: {ولبئس المهاد} نزلت هذه الآى في الأخنس بن شريق وقد تكرر الضمير فيها ثمانى مرات ضمير مفرد وتأكد بذلك أن المعنى بها واحد كما قال المفسرون وقال تعالى: {منهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى} نزلت في الجد بن قيس لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الروم وقال: هل لك في جلاد بنى الأصفر وقصته مشهورة وقال تعالى: {ومنهم من عاهد الله...} الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب إلى غير هذا من المواضع وقد تقدم أيضا أنها تصلح للاثنين وأنشد سيبويه رحمه الله: [الفرزدق]
فإذا ثبت أن من تصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث وقد ذكر المفسرون وأهل السير أن المعترضين لسماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم كانوا جماعة سماهم المفسرون فتحرير المراد في الآية محرز للمعنى المقصود ومتأكد إذ ليس فيما بعد مما في المنتظم مع الآية ما يبين المراد كما في غيرها فوجب رعى ذلك فقيل: {ومنهم من يستمعون} ولزم ذلك ليرتفع الإيهام.فإن قيل: فإن قوله تعالى في آية يونس {أفأنت تسمع الصم} يبين ذلك كما بيبنه في آية الأنعام قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} وما بعد إذ الارتباط حاصل في الآيتين ونظام الكلام ملتئم؟ فالجواب أن ارتباط قوله تعالى: {أفأنت تسمع الصم} بما قبله صحيح كارتباط قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة} بما قبله إلا أن قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة} مبين أن ما وقعت عليه من جماعة وكأن الكلام في قوة أن لو قيل: وجعلنا على قلوب السامعين إذ لا يراد بالضمير غير ما وقعت عليه أما قوله تعالى: {أفأنت تسمع الصم} فليس كذلك بل المراد بلفظ الصم جنس الصم، والمستمعون بعض ذلك فحصل الارتباط بهذا الوجه لا أن الصم يراد بهم من وقعت عليه من فقط وهذا كقولهم: زيد نعم الرجل فإن الرجل لم يرد به زيد وحده إنما أريد به جنس الرجال وإنما زيد واحد منهم فحصل الارتباط بهذا الوجه فليس كقوله: {وجعلنا على قلوبهم} وبهذا يتم المعنى المقصود من تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأن قد قيل له عليه السلام: إن الصم الذين لا يعقلون لم تكلف أسماعهم وهؤلاء منهم فلا درك عليه فيهمن صلى الله عليه وسلم فانفصلت آية يونس من آية الأنعام وورد كل على ما يجب.فإن قيل إذا كان الأكثر في من وقوعها على الكثير فقد وردت آية يونس على ما هو قليل في كلامهم وفى هذا ما يسأل عنه؟ قلت ذلك كله فصيح ومعروف من كلامهم ولا يلزم من كون الوارد أقل أن يكون دون الكثير في الفصاحة بل كل فصيح، وقد بوب سيبويه رحمه الله على حال من في وقوعها على من ذكر فقال في كتابه: هذا باب إجرائهم صلة من وخبرها إذا عنيت اثنين كصلة اللذين وإذا أرادت جماعة كصلة الذين ثم ذكر الآية: ومنهم من يستمع إليك وأنشد بيت الفرزدق وقد تقدم: البيت.وقد تقدم ذكر ما أجريت فيه مجرى التي كقول العرب: ومن كانت أمك وأيهن كانت أمك، وأورد عن [...] قراءة من قرأ: {ومن تقنت منكن لله ورسوله} فقد ذكر سيبويه رحمه الله أن هذا كله من كلام العرب ودل قوله في الترجمة: هذا باب إجرائهم بالاضافة إلى ضمير الجمع وإنما يريد العرب وهذا مشير إلى أن العرب تتكلم به كثيرا وأنه ليس في كلام بعضهم دون بعض ووضح من جملة هذا أن قوله تعالى في آية يونس {ومنهم من يستمعون} بضمير الجماعة لا يلائم الموضع سواه إذ ليس بعده ما يبين أن المراد جمع أما آية الأنعام فقد ورد في المنتظم بها مما بعد ما يبين المراد فجاء كل على ما يحب والله أعلم. اهـ. .من فوائد ابن عطية في الآية: قال رحمه الله:الضمير في قوله: {ومنهم} عائد على الكفار الذين تضمنهم قبل قوله: {يوم نحشرهم جميعًا} [الأنعام: 22] وأفرد {يستمع} وهو فعل جماعة حملًا على لفظ {من} و{أكنة} جمع كنان وهو الغطاء الجامع، ومنه كنانة السهام والكنّ، ومنه قوله تعالى: {بيض مكنون} [الصافات: 49] ومنه قول الشاعر: [الطويل]وفعال وأفعله مهيع في كلامهم و{أن يفقهوه} نصب على المفعول من أجله أي كراهية أن يفهموه، وقيل المعنى أن لا يفقهوه، ويلزم هذا القول إضمار حرف النفي، و{يفقهوه} معناه يفقهوه، ويقال فقِه الرجل بكسر القاف إذا فهم الشيء وفقُه بضمها: إذا صار فقيهًا له ملكة، وفقه إذا غلب في الفقه غيره، والوقر: الثقل في السمع، يقال وقرت أذنه ووقِرت بكسر القاف وفتحها، ومنه قول الشاعر: [الرمل] وقد سمع أذن موقورة فالفعل على هذا وقرت، وقرأ طلحة بن مصرف: {وِقرًا} بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن آذانهم وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل وهي قراءة شاذة، وهذا عبارة عما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلط والبعد عن قبول الخير لا أنهم لم يكونوا سامعين لأقواله، وقوله تعالى: {وإن يروا كل آية} الآية، الرؤية هنا الرؤية العين يريد كانشقاق القمر وشبهه.قال القاضي أبو محمد: ومقصد هذه الآية أنهم في أعجز درجة وحاولوا رد الحق بالدعوى المجردة والواو في قوله: {وجعلنا} واو الحال والباب أن يصرح معها بقد، وقد تجيء أحيانًا مقدرة، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال ومن هؤلاء الكفرة من يستمعك وهو من الغباوة في حد قلبه في كنان وأذنه صماء وهو يرى الآيات فلا يؤمن بها لكنه مع بلوغه الغاية من هذه القصور إذا جاء للمجادلة قابل بدعوى مجردة، والمجادلة المقابلة في الاحتجاج مأخوذ من الجدل، و{هذا} في قولهم إشارة إلى القرآن، والأساطير جمع أسطار كأقوال وأقاويل ونحوه، وأسطار جمع سطر وسطر، وقيل الأساطير جمع أسطارة وهي النزهات، وقيل جمع أسطورة كأعجوبة وأضحوكة، وقيل هم اسم جمع لا واحد من لفظه كعبابيد وشماميط والمعنى أخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر وتحكى ولا تحقق كالتواريخ وإنما شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث وأبي عبد الله بن أبي أمية عن رستم والسندباد، ومجادلة الكفار كانت مرادّتهم نور الله بأفواههم المبطلة، وقد ذكر الطبري عن ابن عباس أنه مثل من ذلك قولهم: إنكم أيها المتبعون محمدًا تأكلون ما قتلتم بذبحكم ولا تأكلون ما قتل الله، ونحو هذا من التخليط الذي لا تتركب منه حجة.قال القاضي أبو محمد: وهذا جدال في حكم، والذي في الآية إنما هو جدال في مدافعة القرآن، فلا تتفسر الآية عندي بأمر الذبح. اهـ. .من فوائد أبي حيان في الآية: قال رحمه الله:{ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا}.روى أبو صالح عن ابن عباس أن أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأمية وأبيًا استمعوا للرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد فقال: ما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان صاحب أشعار جمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدث قريشًا فيستمعون له فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول حقًا.فقال أبو جهل: كلا لا تقر بشيء من هذا وقال الموت أهون من هذا، فنزلت والضمير في {ومنهم} عائد على الذين أشركوا، ووحد الضمير في {يستمع} حملًا على لفظ {من} وجمعه في {على قلوبهم} حملًا على معناها والجملة من قوله: {وجعلنا} معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على اسمية فيكون إخبارًا من الله تعالى أنه جعل كذا.وقيل: الواو واو الحال أي وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك وهم من الغباوة، في حد من قلبه في كنان وأذنه صماء وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى، فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني ويجوز أن تكون بمعنى خلق، فيكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت، فلما تقدّمت صارت حالًا والأكنة جمع كنان كعنان وأعنة والكنان الغطاء الجامع.قال الشاعر:و{أن يفقهوه} في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه.وقيل: المعنى أن {لا يفقهوه} وتقدّم نظير هذين التقديرين.وقرأ طلحة بن مصرّف {وقرأ} بكسر الواو كأنه ذهب إلى أن {آذانهم} وقرت بالصمم كما توقر الدابة من الحمل، والظاهر أن الغطاء والصمم هنا ليسا حقيقة بل ذلك من باب استعارة المحسوس للمعقول حتى يستقر في النفس، استعار الأكنة لصرف قلوبهم عن تدبر آيات الله، والثقل في الأذن لتركهم الإصغاء إلى سماعه ألا تراهم قالوا: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} فلما لم يتدبروا ولم يصغوا كانوا بمنزلة من على قلبه غطاء وفي أذنه وقر.وقال قوم: ذلك حقيقة وهو لا يشعر به كمداخلة الشيطان باطن الإنسان وهو لا يشعر به، ونحا الجبائي في فهم هذه الأية منحى آخر غير هذا فقال: كانوا يستمعون القراءة ليتوصلوا بسماعها إلى معرفة مكان الرسول بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة وتثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد بقوله: {وفي آذانهم وقرًا}.وقيل: إن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة تستدل الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون، وإذا ثبت هذا فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان.وقيل: لما أصرُّوا على الكفر صار عدولهم عن الإيمان كالكنان المانع عن الإيمان فذكر تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى.وقيل: لما منعهم الإلطاف التي إنما تصلح أن يفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم وفوّضهم إلى أنفسهم ليسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه، فيقول: {وجعلنا على قلوبهم أكنة}.وقيل: يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وقالوا: قلوبنا في أكنة وهذه الأقوال كلها تعزى إلى الجبائي وهي كلها فرار من نسبة الجعل إلى الله حقيقة فتأوّلوا ذلك على هذه المجازات البعيدة، وقد نحا الزمخشري منحى بعض هذه الأقوال فقال: الأكنة على القلوب والوقر في الآذان تمثيل نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله: {وجعلنا} للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: {وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} انتهى.وهو جار على مذهب أصحابه المعتزلة، وأما عند أهل السنة فنسبة الجعل إلى الله حقيقة لا مجاز وهي مسألة خلق الأعمال يبحث فيها في أصول الدّين.قال ابن عطية: وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله.{وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم حتى كأن على محالها أكنة ولا بسماعهم حتى كأن {في آذانهم وقرًا} انتقل إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع، فنفى ما يترتب على إدراكها وهو الإيمان والرؤية هنا بصرية والآية كانشقاق القمر ونبع الماء من أصابعه، وحنين الجذع وانقلاب العصا سيفًا والماء الملح عذبًا وتصيير الطعام القليل كثيرًا وما أشبه ذلك.
|